الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
فَإِذَا صَحَّ هَذَا الْمَقَامُ، وَنَزَلَ الْعَبْدُ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، أَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى مَقَامِ التَّوْبَةِ ; لِأَنَّهُ بِالْمُحَاسَبَةِ قَدْ تَمَيَّزَ عِنْدَهُ مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَلْيَجْمَعْ هِمَّتَهُ وَعَزْمَهُ عَلَى النُّزُولِ فِيهِ وَالتَّشْمِيرِ إِلَيْهِ إِلَى الْمَمَاتِ. وَمَنْزِلُ التَّوْبَةِ أَوَّلُ الْمَنَازِلِ، وَأَوْسَطُهَا، وَآخِرُهَا، فَلَا يُفَارِقُهُ الْعَبْدُ السَّالِكُ، وَلَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى الْمَمَاتِ، وَإِنِ ارْتَحَلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ ارْتَحَلَ بِهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ وَنَزَلَ بِهِ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ بِدَايَةُ الْعَبْدِ وَنِهَايَتُهُ، وَحَاجَتُهُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ ضَرُورِيَّةٌ، كَمَا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةٍ مَدَنِيَّةٍ، خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ وَخِيَارَ خَلْقِهِ أَنْ يَتُوبُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَصَبْرِهِمْ، وَهِجْرَتِهِمْ وَجِهَادِهِمْ، ثُمَّ عَلَّقَ الْفَلَاحَ بِالتَّوْبَةِ تَعْلِيقَ الْمُسَبَّبِ بِسَبَبِهِ، وَأَتَى بِأَدَاةِ لَعَلَّ الْمُشْعِرَةِ بِالتَّرَجِّي، إِيذَانًا بِأَنَّكُمْ إِذَا تُبْتُمْ كُنْتُمْ عَلَى رَجَاءِ الْفَلَاحِ، فَلَا يَرْجُو الْفَلَاحَ إِلَّا التَّائِبُونَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قَسَّمَ الْعِبَادَ إِلَى تَائِبٍ وَظَالِمٍ، وَمَا ثَمَّ قَسْمٌ ثَالِثٌ الْبَتَّةَ، وَأَوْقَعَ اسْمَ الظَّالِمِ عَلَى مَنْ لَمْ يَتُبْ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْهُ، لِجَهْلِهِ بِرَبِّهِ وَبِحَقِّهِ، وَبِعَيْبِ نَفْسِهِ وَآفَاتِ أَعْمَالِهِ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ " مِائَةَ مَرَّةٍ، وَمَا صَلَّى صَلَاةً قَطُّ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِهَا، إِلَّا قَالَ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَصَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ. فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ وَعَظْمَتِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ جَلَالُهُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ، وَأَعْرَفِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَحُقُوقِهَا وَأَقْوَمِهِمْ بِهَا.
وَلَمَّا كَانَتِ التَّوْبَةُ مَعْنَاهَا هِيَ رُجُوعُ الْعَبْدِ إِلَى اللَّهِ، وَمُفَارَقَتُهُ لِصِرَاطِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِدَايَةِ اللَّهِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَحْصُلُ هِدَايَتُهُ إِلَّا بِإِعَانَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَقَدِ انْتَظَمَتْهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ أَحْسَنَ انْتِظَامٍ، وَتَضَمَّنَتْهَا أَبْلَغَ تَضَمُّنٍ، فَمَنْ أَعْطَى الْفَاتِحَةَ حَقَّهَا- عِلْمًا وَشُهُودًا وَحَالًا مَعْرِفَةً- عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ لَهُ قِرَاءَتُهَا عَلَى الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ التَّامَّةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لَا تَكُونُ مَعَ الْجَهْلِ بِالذُّنُوبِ، وَلَا مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الْأَوَّلَ جَهْلٌ يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْهُدَى، وَالثَّانِيَ غَيٌّ يُنَافِي قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ، فَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الذَّنْبِ، وَالِاعْتِرَافِ بِهِ، وَطَلَبِ التَّخَلُّصِ مِنْ سُوءِ عَوَاقِبِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا. قَالَ فِي الْمَنَازِلِ: وَهِيَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الذَّنْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِلَى انْخِلَاعِكَ مِنَ الْعِصْمَةِ حِينَ إِتْيَانِهِ، وَفَرَحِكَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ، وَقُعُودِكَ عَلَى الْإِصْرَارِ عَنْ تَدَارُكِهِ، مَعَ تَيَقُّنِكَ نَظَرَ الْحَقِّ إِلَيْكَ. يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالِانْخِلَاعِ عَنِ الْعِصْمَةِ انْخِلَاعَهُ عَنِ اعْتِصَامِهِ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوِ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ لَمَا خَرَجَ عَنْ هِدَايَةِ الطَّاعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَلَوْ كَمُلَتْ عِصْمَتُهُ بِاللَّهِ لَمْ يَخْذُلْهُ أَبَدًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أَيْ مَتَى اعْتَصَمْتُمْ بِهِ تَوَلَّاكُمْ، وَنَصَرَكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى الشَّيْطَانِ، وَهُمَا الْعَدُوَّانِ اللَّذَانِ لَا يُفَارِقَانِ الْعَبْدَ، وَعَدَاوَتُهُمَا أَضَرُّ مِنْ عَدَاوَةِ الْعَدُوِّ الْخَارِجِ، فَالنَّصْرُ عَلَى هَذَا الْعَدُوِّ أَهَمُّ، وَالْعَبْدُ إِلَيْهِ أَحْوَجُ، وَكَمَالُ النُّصْرَةِ عَلَى الْعَدُوِّ بِحَسَبِ كَمَالِ الِاعْتِصَامِ بِاللَّهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا فِي حَقِيقَةِ الِاعْتِصَامِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ الِانْخِلَاعَ مِنْ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ، وَأَنَّكَ إِنَّمَا ارْتَكَبْتَ الذَّنْبَ بَعْدَ انْخِلَاعِكَ مِنْ تَوْبَةِ عِصْمَتِهِ لَكَ، فَمَتَى عُرِفَ هَذَا الِانْخِلَاعُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ عِنْدَهُ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ، وَعَلِمَ أَنَّ الْهَلَكَ كُلَّ الْهَلَكِ بَعْدَهُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْخِذْلَانِ، فَمَا خَلَّى اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّنْبِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ خَذَلَكَ، وَخَلَّى بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ، وَلَوْ عَصَمَكَ وَوَفَّقَكَ لَمَا وَجَدَ الذَّنْبُ إِلَيْكَ سَبِيلًا. فَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْخِذْلَانَ: أَنْ يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَيُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، وَالتَّوْفِيقَ: أَنْ لَا يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ التَّخْلِيَةِ- بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذَّنْبِ وَخِذْلَانِكَ حَتَّى وَاقَعْتَهُ- حِكَمٌ وَأَسْرَارٌ، سَنَذْكُرُ بَعْضَهَا. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَتَرْجِعُ التَّوْبَةُ إِلَى اعْتِصَامِكَ بِهِ وَعِصْمَتِهِ لَكَ. قَوْلُهُ: وَفَرَّحَكَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ. الْفَرَحُ بِالْمَعْصِيَةِ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَالْجَهْلِ بِقَدْرِ مَنْ عَصَاهُ، وَالْجَهْلِ بِسُوءِ عَاقِبَتِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا، فَفَرَحُهُ بِهَا غَطَّى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَفَرَحُهُ بِهَا أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَيْهِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَالْمُؤْمِنُ لَا تَتِمُّ لَهُ لَذَّةٌ بِمَعْصِيَةٍ أَبَدًا، وَلَا يَكْمُلُ بِهَا فَرَحُهُ، بَلْ لَا يُبَاشِرُهَا إِلَّا وَالْحُزْنُ مُخَالِطٌ لِقَلْبِهِ، وَلَكِنَّ سُكْرَ الشَّهْوَةِ يَحْجُبُهُ عَنِ الشُّعُورِ بِهِ، وَمَتَى خَلَّى قَلْبَهُ مِنْ هَذَا الْحُزْنِ، وَاشْتَدَّتْ غِبْطَتُهُ وَسُرُورُهُ فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ، وَلْيَبْكِ عَلَى مَوْتِ قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَحْزَنَهُ ارْتِكَابُهُ لِلذَّنْبِ، وَغَاظَهُ وَصَعُبَ عَلَيْهِ، وَلَا يُحِسُّ الْقَلْبُ بِذَلِكَ، فَحَيْثُ لَمْ يُحِسَّ بِهِ فَمَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ فِي الذَّنْبِ قَلَّ مَنْ يَهْتَدِي إِلَيْهَا أَوْ يَنْتَبِهُ لَهَا، وَهِيَ مَوْضِعٌ مَخُوفٌ جِدًّا، مُتَرَامٍ إِلَى هَلَاكٍ إِنْ لَمْ يُتَدَارَكْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: خَوْفٍ مِنَ الْمُوَافَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَنَدَمٍ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ اللَّهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَشْمِيرٍ لِلْجِدِّ فِي اسْتِدْرَاكِهِ. قَوْلُهُ: وَقُعُودُكَ عَلَى الْإِصْرَارِ عَنْ تَدَارُكِهِ. الْإِصْرَارُ: هُوَ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الْمُعَاوَدَةِ، وَذَلِكَ ذَنْبٌ آخَرُ، لَعَلَّهُ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الْأَوَّلِ بِكَثِيرٍ، وَهَذَا مِنْ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ أَنَّهُ يُوجِبُ ذَنْبًا أَكْبَرَ مِنْهُ، ثُمَّ الثَّانِي كَذَلِكَ، ثُمَّ الثَّالِثُ كَذَلِكَ، حَتَّى يَسْتَحْكِمَ الْهَلَاكُ. فَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى، وَالْقُعُودُ عَنْ تَدَارُكِ الْفَارِطِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِصْرَارٌ وَرِضًا بِهَا، وَطُمَأْنِينَةٌ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمُجَاهَرَةُ بِالذَّنْبِ مَعَ تَيَقُّنِ نَظَرِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ آمَنَ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَأَقْدَمَ عَلَى الْمُجَاهَرَةِ فَعَظِيمٌ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِنَظَرِهِ إِلَيْهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ فَكُفْرٌ، وَانْسِلَاخٌ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: بَيْنَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَمُجَاهَرَةِ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ، فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ تَيَقُّنُهُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ نَاظِرًا- وَلَا يَزَالُ- إِلَيْهِ مُطَّلِعًا عَلَيْهِ، يَرَاهُ جَهْرَةً عِنْدَ مُوَاقَعَةِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إِلَّا مِنْ مُسْلِمٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ جَاحِدًا لَهُ، فَتَوْبَتُهُ دُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِقْرَارُهُ بِصِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. قَالَ: وَشَرَائِطُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةٌ: النَّدَمُ، وَالْإِقْلَاعُ، وَالِاعْتِذَارُ. فَحَقِيقَةُ التَّوْبَةِ: هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالثَّلَاثَةُ تَجْتَمِعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ التَّوْبَةُ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْدَمُ، وَيُقْلِعُ، وَيَعْزِمُ. فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا، وَهَذَا الرُّجُوعُ هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ. وَلَمَّا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الثَّلَاثَةِ جُعِلَتْ شَرَائِطَ لَهُ. فَأَمَّا النَّدَمُ: فَإِنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ التَّوْبَةُ إِلَّا بِهِ، إِذْ مَنْ لَمْ يَنْدَمْ عَلَى الْقَبِيحِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِهِ، وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْنَدِ " النَّدَمُ تَوْبَةٌ ". وَأَمَّا الْإِقْلَاعُ: فَتَسْتَحِيلُ التَّوْبَةُ مَعَ مُبَاشَرَةِ الذَّنْبِ. وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ: فَفِيهِ إِشْكَالٌ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ الِاعْتِذَارَ مُحَاجَّةٌ عَنِ الْجِنَايَةِ، وَتَرْكُ الِاعْتِذَارِ اعْتِرَافٌ بِهَا، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إِلَّا بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ لِرَئِيسِهِ وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ: وَمَا قَابَلْتَ عَتْبَكَ بِاعْتِــذَارٍ *** وَلَكِنِّي أَقُولُ كَمَا تَقُــولُ وَأَطْرُقُ بَابَ عَفْوِكَ بِانْكِسَـارٍ *** وَيَحْكُمُ بَيْنَنَا الْخُلُقُ الْجَمِيـلُ فَلَمَّا سَمِعَ الرَّئِيسُ مَقَالَتَهُ قَامَ وَرَكِبَ إِلَيْهِ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَزَالَ عَتْبَهُ عَلَيْهِ، فَتَمَامُ الِاعْتِرَافِ تَرْكُ الِاعْتِذَارِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ: اللَّهُمَّ لَا بَرَاءَةَ لِي مِنْ ذَنْبٍ فَأَعْتَذِرُ، وَلَا قُوَّةَ لِي فَأَنْتَصِرُ، وَلَكِنِّي مُذْنِبٌ مُسْتَغْفِرٌ، اللَّهُمَّ لَا عُذْرَ لِي، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْضُ حَقِّكَ، وَمَحْضُ جِنَايَتِي، فَإِنْ عَفَوْتَ وَإِلَّا فَالْحَقُّ لَكَ. وَالَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ أَنَّهُ أَرَادَ بِالِاعْتِذَارِ إِظْهَارَ الضَّعْفِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَغَلَبَةَ الْعَدُوِّ، وَقُوَّةَ سُلْطَانِ النَّفْسِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنِّي مَا كَانَ عَنِ اسْتِهَانَةٍ بِحَقِّكَ، وَلَا جَهْلًا بِهِ، وَلَا إِنْكَارًا لِاطِّلَاعِكَ، وَلَا اسْتِهَانَةً بِوَعِيدِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى، وَضَعْفِ الْقُوَّةِ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَرَضِ الشَّهْوَةِ، وَطَمَعًا فِي مَغْفِرَتِكَ وَاتِّكَالًا عَلَى عَفْوِكَ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِكَ، وَرَجَاءً لِكَرَمِكَ، وَطَمَعًا فِي سَعَةِ حِلْمِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَغَرَّنِي بِكَ الْغَرُورُ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَسِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ، وَأَعَانَنِي جَهْلِي، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الِاعْتِصَامِ لِي إِلَّا بِكَ، وَلَا مَعُونَةَ عَلَى طَاعَتِكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاسْتِعْطَافِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ. فَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا يَسْلُكُهُ الْأَكْيَاسُ الْمُتَمَلِّقُونَ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَتَمَلَّقَ لَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ " تَمَلَّقُوا لِلَّهِ " وَفِي الصَّحِيحِ لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ الْإِعْذَارَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ " وَقَالَ تَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ أَعْذَرَ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ لَا يُؤَاخِذَ ظَالِمَهُمْ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِعْذَارِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، وَيَتَنَصَّلَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ " مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ " فَهَذَا هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَحْمُودُ النَّافِعُ. وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مُخَاصَمَةٌ لِلَّهِ، وَاحْتِجَاجٌ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ، وَحَمْلٌ لِذَنْبِهِ عَلَى الْأَقْدَارِ، وَهَذَا فِعْلُ خُصَمَاءِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالُوا: مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ قَالَ: إِقَامَةُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ. وَكَذِبَ هَذَا الْجَاهِلُ بِاللَّهِ وَكَلَامِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّزْهِيدُ فِي هَذَا الْفَانِي الذَّاهِبِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْبَاقِي الدَّائِمِ، وَالْإِزْرَاءُ بِمَنْ آثَرَ هَذَا الْمُزَيَّنَ وَاتَّبَعَهُ، بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُزَيَّنُ لَهُ مَا يَلْعَبُ بِهِ، فَيَهُشُّ إِلَيْهِ وَيَتَحَرَّكُ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فَاعِلَ التَّزْيِينِ، فَلَمْ يَقُلْ زُيِّنَّا لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُضِيفُ تَزْيِينَ الدُّنْيَا وَالْمَعَاصِي إِلَى الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وَفِي الْحَدِيثِ بُعِثْتُ هَادِيًا وَدَاعِيًا، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، وَبُعِثَ إِبْلِيسُ مُغْوِيًا وَمُزَيِّنًا، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} فَإِنَّ إِضَافَةَ التَّزْيِينِ إِلَيْهِ قَضَاءً وَقَدَرًا، وَإِلَى الشَّيْطَانِ تَسَبُّبًا، مَعَ أَنَّهُ تَزْيِينُهُ تَعَالَى عُقُوبَةٌ لَهُمْ عَلَى رُكُونِهِمْ إِلَى مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لَهُمْ، فَمِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَمِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْقَدَرِ مُنَافٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِاعْتِذَارِ فِي شَيْءٍ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ " إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَذْنَبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، هَذَا قَضَاؤُكَ، وَأَنْتَ قَدَّرْتَ عَلَيَّ، وَأَنْتَ حَكَمْتَ عَلَيَّ، وَأَنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْتَ عَمِلْتَ، وَأَنْتَ كَسَبْتَ، وَأَنْتَ أَرَدْتَ وَاجْتَهَدْتَ، وَأَنَا أُعَاقِبُكَ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَالَ: يَا رَبِّ، أَنَا ظَلَمْتُ، وَأَنَا أَخْطَأْتُ، وَأَنَا اعْتَدَيْتُ، وَأَنَا فَعَلْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنَا قَدَرْتُ عَلَيْكَ وَقَضَيْتُ وَكَتَبْتُ، وَأَنَا أَغْفِرُ لَكَ، وَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَنَا عَمِلْتُهَا، وَأَنَا تَصَدَّقْتُ، وَأَنَا صَلَّيْتُ، وَأَنَا أَطْعَمْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنَا أَعَنْتُكَ، وَأَنَا وَفَّقْتُكَ، وَإِذَا قَالَ: يَا رَبِّ أَنْتَ أَعَنْتَنِي وَوَفَّقْتَنِي، وَأَنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ: وَأَنْتَ عَمِلْتَهَا، وَأَنْتَ أَرَدْتَهَا، وَأَنْتَ كَسَبْتَهَا ". فَالِاعْتِذَارُ اعْتِذَارَانِ: اعْتِذَارٌ يُنَافِي الِاعْتِرَافَ، فَذَلِكَ مُنَافٍ لِلتَّوْبَةِ، وَاعْتِذَارٌ يُقَرِّرُ الِاعْتِرَافَ، فَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَحَقَائِقُ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: تَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ، وَاتِّهَامُ التَّوْبَةِ، وَطَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ. يُرِيدُ بِالْحَقَائِقِ: مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الشَّيْءُ، وَتَتَبَيَّنُ بِهِ صِحَّتُهُ وَثُبُوتُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَارِثَةَ إِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟. فَأَمَّا تَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَهَانَ بِهَا لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهَا، وَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهَا يَكُونُ نَدَمُهُ عَلَى ارْتِكَابِهَا، فَإِنَّ مَنِ اسْتَهَانَ بِإِضَاعَةِ فِلْسٍ- مَثَلًا- لَمْ يَنْدَمْ عَلَى إِضَاعَتِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ دِينَارٌ اشْتَدَّ نَدَمُهُ، وَعَظُمَتْ إِضَاعَتُهُ عِنْدَهُ. وَتَعْظِيمُ الْجِنَايَةِ يَصْدُرُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ، وَتَعْظِيمُ الْآمِرِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْجَزَاءِ. وَأَمَّا اتِّهَامُ التَّوْبَةِ فَلِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَيْهِ، لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ أَدَّى هَذَا الْحَقَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ، الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَيْهِ، فَيَخَافُ أَنَّهُ مَا وَفَّاهَا حَقَّهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَهُ فِي صِحَّتِهَا، وَأَنَّهَا تَوْبَةُ عِلَّةٍ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا، كَتَوْبَةِ أَرْبَابِ الْحَوَائِجِ وَالْإِفْلَاسِ، وَالْمُحَافِظِينَ عَلَى حَاجَاتِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهُ تَابَ مُحَافَظَةً عَلَى حَالِهِ، فَتَابَ لِلْحَالِ لَا خَوْفًا مِنْ ذِي الْجَلَالِ، أَوْ أَنَّهُ تَابَ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ مِنَ الْكَدِّ فِي تَحْصِيلِ الذَّنْبِ، أَوِ اتِّقَاءَ مَا يَخَافُهُ عَلَى عِرْضِهِ وَمَالِهِ وَمَنْصِبِهِ، أَوْ لِضَعْفِ دَاعِي الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِهِ، وَخُمُودِ نَارِ شَهْوَتِهِ، أَوْ لِمُنَافَاةِ الْمَعْصِيَةِ لِمَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالرِّزْقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي تَقْدَحُ فِي كَوْنِ التَّوْبَةِ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِحُرُمَاتِهِ، وَإِجْلَالًا لَهُ، وَخَشْيَةً مِنْ سُقُوطِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ، وَعَنِ الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْهُ، وَالْحِجَابِ عَنْ رُؤْيَةِ وَجْهِهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ التَّوْبَةُ لَوْنٌ، وَتَوْبَةُ أَصْحَابِ الْعِلَلِ لَوْنٌ. وَمِنَ اتِّهَامِ التَّوْبَةِ أَيْضًا: ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ، وَالْتِفَاتُ الْقَلْبِ إِلَى الذَّنْبِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، وَتَذَكُّرُ حَلَاوَةِ مُوَاقَعَتِهِ، فَرُبَّمَا تَنَفَّسَ، وَرُبَّمَا هَاجَ هَائِجُهُ. وَمِنَ اتِّهَامِ التَّوْبَةِ: طُمَأْنِينَتُهُ وَوُثُوقُهُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مَنْشُورًا بِالْأَمَانِ، فَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ التُّهْمَةِ. وَمِنْ عَلَامَاتِهَا: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَاسْتِمْرَارُ الْغَفْلَةِ، وَأَنْ لَا يَسْتَحْدِثَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْمَالًا صَالِحَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ. فَالتَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الصَّحِيحَةُ لَهَا عَلَامَاتٌ. مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَهَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَزَالُ الْخَوْفُ مُصَاحِبًا لَهُ لَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَخَوْفُهُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى أَنْ يَسْمَعَ قَوْلَ الرُّسُلِ لِقَبْضِ رُوحِهِ: {أَنْ لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فَهُنَاكَ يَزُولُ الْخَوْفُ. وَمِنْهَا: انْخِلَاعُ قَلْبِهِ، وَتَقَطُّعُهُ نَدَمًا وَخَوْفًا، وَهَذَا عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجِنَايَةِ وَصِغَرِهَا، وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قَالَ: تَقَطُّعُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْخَوْفَ الشَّدِيدَ مِنَ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ يُوجِبُ انْصِدَاعَ الْقَلْبِ وَانْخِلَاعَهُ، وَهَذَا هُوَ تَقَطُّعُهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ قَلْبُهُ حَسْرَةً عَلَى مَا فَرَطَ مِنْهُ، وَخَوْفًا مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَقَطَّعْ قَلْبُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا فَرَّطَ حَسْرَةً وَخَوْفًا، تَقَطَّعَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حَقَّتِ الْحَقَائِقُ، وَعَايَنَ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ، وَعِقَابَ الْعَاصِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَطُّعِ الْقَلْبِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ. وَمِنْ مُوجِبَاتِ التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْضًا: كَسْرَةٌ خَاصَّةٌ تَحْصُلُ لِلْقَلْبِ لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، وَلَا تَكُونُ لِغَيْرِ الْمُذْنِبِ، لَا تَحْصُلُ بِجُوعٍ، وَلَا رِيَاضَةٍ، وَلَا حُبٍّ مُجَرَّدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ أَمَرٌّ وَرَاءَ هَذَا كُلِّهِ، تَكْسِرُ الْقَلْبَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ كَسْرَةً تَامَّةً، قَدْ أَحَاطَتْ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَلْقَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ طَرِيحًا ذَلِيلًا خَاشِعًا، كَحَالِ عَبْدٍ جَانٍ آبِقٍ مِنْ سَيِّدِهِ، فَأُخِذَ فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُنْجِيهِ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ بُدًّا وَلَا عَنْهُ غَنَاءً، وَلَا مِنْهُ مَهْرَبًا، وَعَلِمَ أَنَّ حَيَاتَهُ وَسَعَادَتَهُ وَفَلَاحَهُ وَنَجَاحَهُ فِي رِضَاهُ عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ إِحَاطَةَ سَيِّدِهِ بِتَفَاصِيلِ جِنَايَاتِهِ، هَذَا مَعَ حُبِّهِ لِسَيِّدِهِ، وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ وَقُوَّةِ سَيِّدِهِ، وَذُلِّهِ وَعِزِّ سَيِّدِهِ. فَيَجْتَمِعُ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَسْرَةٌ وَذِلَّةٌ وَخُضُوعٌ، مَا أَنْفَعَهَا لِلْعَبْدِ وَمَا أَجْدَى عَائِدَتَهَا عَلَيْهِ! وَمَا أَعْظَمَ جَبْرَهُ بِهَا، وَمَا أَقْرَبَهُ بِهَا مِنْ سَيِّدِهِ! فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ هَذِهِ الْكَسْرَةِ، وَالْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَالْإِخْبَاتِ، وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ، فَلَلَّهِ مَا أَحْلَى قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ: أَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ وَذُلِّي إِلَّا رَحِمْتَنِي، أَسْأَلُكَ بِقُوَّتِكَ وَضَعْفِي، وَبِغِنَاكَ عَنِّي وَفَقْرِي إِلَيْكَ، هَذِهِ نَاصِيَتِي الْكَاذِبَةُ الْخَاطِئَةُ بَيْنَ يَدَيْكَ، عَبِيدُكَ سِوَايَ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي سَيِّدٌ سِوَاكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْخَاضِعِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، سُؤَالَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، وَفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وَذَلَّ لَكَ قَلْبُهُ. يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّـــلُهُ *** وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَــاذِرُهُ لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ *** وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ آثَارِ التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَلْيَتَّهِمْ تَوْبَتَهُ وَلْيَرْجِعْ إِلَى تَصْحِيحِهَا، فَمَا أَصْعَبَ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ بِالْحَقِيقَةِ، وَمَا أَسْهَلَهَا بِاللِّسَانِ وَالدَّعْوَى! وَمَا عَالَجَ الصَّادِقُ بِشَيْءٍ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ الْخَالِصَةِ الصَّادِقَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْمُتَنَزِّهِينَ عَنِ الْكَبَائِرِ الْحِسِّيَّةِ وَالْقَاذُورَاتِ فِي كَبَائِرَ مِثْلِهَا أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا أَوْ دُونَهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّهَا ذُنُوبٌ لِيَتُوبُوا مِنْهَا، فَعِنْدَهُمْ- مِنَ الْإِزْرَاءِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَاحْتِقَارِهِمْ، وَصَوْلَةِ طَاعَاتِهِمْ، وَمِنَّتِهِمْ عَلَى الْخَلْقِ بِلِسَانِ الْحَالِ، وَاقْتِضَاءِ بَوَاطِنِهِمْ لِتَعْظِيمِ الْخَلْقِ لَهُمْ عَلَى طَاعَاتِهِمْ، اقْتِضَاءً لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ غَيْرِهِمْ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ- مَا هُوَ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ، وَأَبْعَدُ لَهُمْ عَنْ بَابِهِ مِنْ كَبَائِرِ أُولَئِكَ، فَإِنْ تَدَارَكَ اللَّهُ أَحَدَهُمْ بِقَاذُورَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ يُوقِعُهُ فِيهَا لِيَكْسِرَ بِهَا نَفْسَهُ، وَيُعَرِّفَهُ قَدْرَهُ، وَيُذِلَّهُ بِهَا، وَيُخْرِجَ بِهَا صَوْلَةَ الطَّاعَةِ مَنْ قَلْبِهِ، فَهِيَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا تَدَارَكَ أَصْحَابَ الْكَبَائِرِ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَإِقْبَالٍ بِقُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَإِلَّا فَكِلَاهُمَا عَلَى خَطَرٍ.
وَأَمَّا طَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ، قِسْمَانِ مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ فَهَذَا لَهُ وَجْهَانِ: وَجْهٌ مَحْمُودٌ، وَوَجْهٌ مَذْمُومٌ حَرَامٌ. فَالْمَذْمُومُ: أَنْ تَطْلُبَ أَعْذَارَهُمْ، نَظَرًا إِلَى الْحُكْمِ الْقَدَرِيِّ، وَجَرَيَانِهِ عَلَيْهِمْ، شَاءُوا أَمْ أَبَوْا، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ. وَهَذَا الْقَدَرُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ السَّالِكِينَ، وَالنَّاظِرِينَ إِلَى الْقَدَرِ، الْفَانِينَ فِي شُهُودِهِ، وَهُوَ- كَمَا تَقَدَّمَ- دَرْبٌ خَطِرٌ جِدًّا، قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ، لَا يُنْجِي وَحْدَهُ. وَأَظُنُّ هَذَا مُرَادَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: مُشَاهَدَةُ الْعَبْدِ الْحُكْمَ لَمْ يَدَعْ لَهُ اسْتِحْسَانَ حَسَنَةٍ، وَلَا اسْتِقْبَاحَ سَيِّئَةٍ، لِصُعُودِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَانِي إِلَى مَعْنَى الْحُكْمِ. وَهَذَا الشُّهُودُ شُهُودٌ نَاقِصٌ مَذْمُومٌ، إِنْ طَرَدَهُ صَاحِبُهُ، فَعَذَرَ أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَأَهْلَ مُخَالَفَتِهِ وَمُخَالَفَةِ رُسُلِهِ، وَطَلَبَ أَعْذَارَهُمْ كَانَ مُضَادًّا لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ، عَاذِرًا مَنْ لَمْ يَعْذُرْهُ اللَّهُ، طَالِبًا عُذْرَ مَنْ لَامَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ بِلَوْمِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مُوَافَقَةً لِلَّهِ، بَلْ مُوَافَقَتُهُ لَوْمُ هَذَا، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِ، وَأَزَالَ عُذْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَوْ كَانَ مَعْذُورًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ اللَّهِ لَمَا عَاقَبَهُ الْبَتَّةَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمُ وَأَغْنَى وَأَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُعَاقِبَ صَاحِبَ عُذْرٍ، فَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ، إِزَالَةً لِأَعْذَارِ خَلْقِهِ، لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ طَالِبَ عُذْرِهِمْ وَمُصَحِّحَهُ مُقِيمٌ لِحُجَّةٍ قَدْ أَبْطَلَهَا اللَّهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ خَلْقِهِ- كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَالْمَعْتُوهِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَالْأَصَمِّ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ وَلَا يَسْمَعُ- فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ هَؤُلَاءِ بِلَا ذَنْبٍ الْبَتَّةَ، وَلَهُ فِيهِمْ حُكْمٌ آخَرُ فِي الْمَعَادِ، يَمْتَحِنُهُمْ بِأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ مِنْهُمْ، أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ أَدْخَلَهُ النَّارَ، حَكَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي مَقَالَاتِهِ، وَفِيهِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ بَعْضُهَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، كَحَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمَنْ طَعَنَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ لَا دَارَ تَكْلِيفٍ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ، فَهُوَ جَاهِلٌ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَنْقَطِعُ بِدُخُولِ دَارِ الْقَرَارِ، الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، وَإِلَّا فَالتَّكْلِيفُ وَاقِعٌ فِي الْبَرْزَخِ وَفِي الْعَرَصَاتِ، وَلِهَذَا يَدْعُوهُمْ إِلَى السُّجُودِ لَهُ فِي الْمَوْقِفِ، فَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ لَهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَيُحَالُ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَبَيْنَ السُّجُودِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ الْبَتَّةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَتَمَكُّنِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ لَمَا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَاللَّوْمَ، لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْعُقْبَى. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا كَلَامٌ بِلِسَانِ الْحَالِ بِالشَّرْعِ، وَلَوْ نَطَقْتَ بِلِسَانِ الْحَقِيقَةِ، لَعَذَرْتَ الْخَلِيقَةَ، إِذْ هُمْ صَائِرُونَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ وَلَا بُدَّ، فَهُمْ مَجَارٍ لِأَقْدَارِهِ، وَسِهَامُهَا نَافِذَةٌ فِيهِمْ، وَهُمْ أَغْرَاضٌ لِسِهَامِ الْأَقْدَارِ لَا تُخْطِئُهُمُ الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يُمْكِنْهُ طَلَبُ الْعُذْرِ لَهُمْ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ مُشَاهَدَةُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ عَذَرَهُمْ، فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْنَا بِحَقِيقَةِ الشَّرْعِ، وَنَحْنُ مَعْذُورُونَ فِي طَلَبِ الْعُذْرِ بِحَقِيقَةِ الْحُكْمِ، وَكِلَانَا مُصِيبٌ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُقَالَ: الْعُذْرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ يَكُنْ نَافِعًا، وَالِاعْتِذَارُ بِالْقَدَرِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِهِ، وَلَوِ اعْتَذَرَ فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا يُفِيدُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، بَلْ يَزِيدُ فِي ذَنْبِ الْجَانِي، وَيَغْضَبُ الرَّبُّ عَلَيْهِ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ عَاقِلٌ. الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِذَارَ بِالْقَدَرِ يَتَضَمَّنُ تَنْزِيهَ الْجَانِي نَفْسَهُ، وَتَنْزِيهَ سَاحَتِهِ، وَهُوَ الظَّالِمُ الْجَاهِلُ، وَالْجَهْلُ عَلَى الْقَدَرِ نِسْبَةُ الذَّنْبِ إِلَيْهِ، وَتَظْلِيمُهُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْقَالِ، بِتَحْسِينِ الْعِبَارَةِ وَتَلْطِيفِهَا، وَرُبَّمَا غَلَبَهُ الْحَالُ، فَصَرَّحَ بِالْوَجْدِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ خُصَمَاءِ اللَّهِ: أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَـهُ *** إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَــاءِ وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ: اللَّحْــــمَ لِلْبُـزَا *** ةِ عَلَى ذِرْوَتَـيْ عَــــدَنْ ثُمَّ لَامُـــوا الْبُـــزَاةَ أَنْ *** خَلَعُــوا عَنْهُمُ الرَّسَــنْ لَوْ أَرَادُوا صِــــــيَانَتِي *** سَتَرُوا وَجْهَــكِ الْحَسَنْ وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ: أَصْبَحْتَ مُنْفَعِلًا لِمَا تَخْتَــارُهُ *** مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَــاتُ وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ شَاكِيًا مُتَظَلِّمًا: إِذَا كَانَ الْمُحِبُّ قَلِيلَ حَـــظٍّ *** فَمَا حَسَنَاتُهُ إِلَّا ذُنُـوبُ وَقَالَ خَصْمٌ آخَرُ مُعْتَذِرًا عَنْ إِبْلِيسَ: لَمَّا عَصَى مَنْ كَانَ إِبْلِيسَهُ؟. وَلِخُصَمَاءِ اللَّهِ هَاهُنَا تَظَلُّمَاتٌ وَشِكَايَاتٌ، وَلَوْ فَتَّشُوا زَوَايَا قُلُوبِهِمْ لَوَجَدُوا هُنَاكَ خَصْمًا مُتَظَلِّمًا شَاكِيًا عَاتِبًا، يَقُولُ: لَا أَقْدِرُ أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، وَإِنِّي مَظْلُومٌ فِي صُورَةِ ظَالِمٍ، وَيَقُولُ بِحُرْقَةٍ وَيَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ: مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ، لَا قَادِرٌ وَلَا مَعْذُورٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: ابْنُ آدَمَ كُرَةٌ تَحْتَ صَوْلَجَانَاتِ الْأَقْدَارِ، يَضْرِبُهَا وَاحِدٌ، وَيَرُدُّهَا الْآخَرُ، وَهَلْ تَسْتَطِيعُ الْكُرَةُ الِانْتِصَافَ مِنَ الصَّوْلَجَانِ؟. وَيَتَمَثَّلُ خَصْمٌ آخَرُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: بِأَبِـــي أَنْتَ وَإِنْ أَسْـ *** ـرَفْتَ فِي هَجْــرِي وَظُلْمِي فَجَعَلَهُ هَاجِرًا بِلَا ذَنْبٍ، ظَالِمًا، بَلْ مُسْرِفًا، قَدْ تَجَاوَزَ الْحَدَّ فِي ظُلْمِهِ، وَيَقُولُ آخَرُ: أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْكَ يَوْمًا سَحَــابَةٌ *** أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا رَشَاشُهَا فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْئَسَ طَالِــبٌ *** وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشُهَا وَيَقُولُ آخَرُ: يَدْنُو إِلَيْكَ وَنَقْصُ الْحَظِّ يُبْعِــدُهُ *** وَيَسْتَقِيمُ وَدَاعِي الْبَيْنِ يَلْوِيــهِ وَيَقُولُ خَصْمٌ آخَرُ: وَاقِفٌ فِي الْمَــــــاءِ ظَمْآ نٌ وَلَكِــنْ لَيْسَ يُسْــــقَى وَمَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَبَصِيرَةٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَظَلُّمٌ وَشِكَايَةٌ وَعَتْبٌ، وَيَكَادُ أَحَدُهُمْ يَقُولُ: يَا ظَالِمِي لَوْلَا، وَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ كَمَا يَنْبَغِي لَوَجَدَ ذَلِكَ فِيهَا، وَهَذَا مَا لَا غَايَةَ بَعْدَهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، وَالْإِنْسَانُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}، {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}. وَلَوْ عَلِمَ هَذَا الظَّالِمُ الْجَاهِلُ أَنَّ بَلَاءَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَمُصَابَهُ مِنْهَا، وَأَنَّهَا أَوْلَى بِكُلِّ ذَمٍّ وَظُلْمٍ، وَأَنَّهَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَ{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: كَفُورٌ جَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وَيَنْسَى النِّعَمَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ قَلِيلُ الْخَيْرِ، وَالْأَرْضُ الْكَنُودُ الَّتِي لَا نَبْتَ بِهَا، وَقِيلَ: الَّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ: الْكَنُودُ الَّذِي أَنْسَتْهُ الْخَصْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْإِسَاءَةِ الْخِصَالَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَلَوْ عَلِمَ هَذَا الظَّالِمُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ هُوَ الْقَاعِدُ عَلَى طَرِيقِ مَصَالِحِهِ يَقْطَعُهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَهُوَ الْحَجَرُ فِي طَرِيقِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ حَيَاتُهُ، وَهُوَ السُّكْرُ الَّذِي قَدْ سَدَّ مَجْرَى الْمَاءِ إِلَى بُسْتَانِ قَلْبِهِ، وَيَسْتَغِيثُ مَعَ ذَلِكَ: الْعَطَشَ الْعَطَشَ، وَقَدْ وَقَفَ فِي طَرِيقِ الْمَاءِ، وَمَنَعَ وُصُولَهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ حِجَابُ قَلْبِهِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ، وَهُوَ الْغَيْمُ الْمَانِعُ لِإِشْرَاقِ شَمْسِ الْهُدَى عَلَى الْقَلْبِ، فَمَا عَلَيْهِ أَضَرُّ مِنْهُ، وَلَا لَهُ أَعْدَاءٌ أَبْلَغُ فِي نِكَايَتِهِ وَعَدَاوَتِهِ مِنْهُ. مَا تَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِــلٍ *** مَا يَبْلُغُ الْجَاهِــلُ مِنْ نَفْسِهِ فَتَبًّا لَهُ ظَالِمًا فِي صُورَةِ مَظْلُومٍ، وَشَاكِيًا وَالْجِنَايَةُ مِنْهُ، قَدْ جَدَّ فِي الْإِعْرَاضِ وَهُوَ يُنَادِي: طَرَدُونِي وَأَبْعَدُونِي، وَلَّى ظَهْرَهُ الْبَابَ، بَلْ أَغْلَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَضَاعَ مَفَاتِيحَهُ وَكَسَرَهَا، وَيَقُولُ: دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ دُونِي فَهَلْ إِلَى *** دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قِصَّتِي يَأْخُذُ الشَّفِيقُ بِحُجْزَتِهِ عَنِ النَّارِ، وَهُوَ يُجَاذِبُهُ ثَوْبَهُ وَيَغْلِبُهُ وَيَقْتَحِمُهَا، وَيَسْتَغِيثُ: مَا حِيلَتِي؟ وَقَدْ قَدَّمُونِي إِلَى الْحُفَيْرَةِ وَقَذَفُونِي فِيهَا، وَاللَّهِ كَمْ صَاحَ بِهِ النَّاصِحُ: الْحَذَرَ الْحَذَرَ، إِيَّاكَ إِيَّاكَ، وَكَمْ أَمْسَكَ بِثَوْبِهِ، وَكَمْ أَرَاهُ مَصَارِعَ الْمُقْتَحِمِينَ وَهُوَ يَأْبَى إِلَّا الِاقْتِحَامَ: وَكَمْ سُقْتُ فِي آثَارِكُمْ مِنْ نَصِيحَةٍ *** وَقَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّـحُ يَا وَيْلَهُ ظَهِيرًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ، خَصْمًا لِلَّهِ مَعَ نَفْسِهِ، جَبْرِيُّ الْمَعَاصِي، قَدَرِيُّ الطَّاعَاتِ، عَاجِزُ الرَّأْيِ، مِضْيَاعٌ لِفُرْصَتِهِ، قَاعِدٌ عَنْ مَصَالِحِهِ، مُعَاتِبٌ لِأَقْدَارِ رَبِّهِ، يَحْتَجُّ عَلَى رَبِّهِ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ مِنْ عَبْدِهِ وَامْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ إِذَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ فِي التَّهَاوُنِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، فَلَوْ أَمَرَ أَحَدَهُمْ بِأَمْرٍ فَفَرَّطَ فِيهِ، أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَارْتَكَبَهُ، وَقَالَ: الْقَدَرُ سَاقَنِي إِلَى ذَلِكَ، لَمَا قَبِلَ مِنْهُ هَذِهِ الْحُجَّةَ، وَلَبَادَرَ إِلَى عُقُوبَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَكَ أَيُّهَا الظَّالِمُ الْجَاهِلُ فِي تَرْكِ حَقِّ رَبِّكَ، فَهَلَّا كَانَ حُجَّةً لِعَبْدِكَ وَأَمَتِكَ فِي تَرْكِ بَعْضِ حَقِّكَ؟ بَلْ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ، وَجَنَى عَلَيْكَ جَانٍ، وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ لَاشْتَدَّ غَضَبُكَ عَلَيْهِ، وَتَضَاعَفَ جُرْمُهُ عِنْدَكَ، وَرَأَيْتَ حُجَّتَهُ دَاحِضَةً، ثُمَّ تَحْتَجُّ عَلَى رَبِّكَ بِهِ، وَتَرَاهُ عُذْرًا لِنَفْسِكَ؟! فَمَنْ أَوْلَى بِالظُّلْمِ وَالْجَهْلِ مِمَّنْ هَذِهِ حَالُهُ؟ هَذَا مَعَ تَوَاتُرِ إِحْسَانِ اللَّهِ إِلَيْكَ عَلَى مَدَى الْأَنْفَاسِ، أَزَاحَ عِلَلَكَ، وَمَكَّنَكَ مِنَ التَّزَوُّدِ إِلَى جَنَّتِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْكَ الدَّلِيلَ، وَأَعْطَاكَ مُؤْنَةَ السَّفَرِ وَمَا تَتَزَوَّدُ بِهِ، وَمَا تُحَارِبُ بِهِ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ عَلَيْكَ، فَأَعْطَاكَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ، وَعَرَّفَكَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْكَ رَسُولَهُ، وَأَنْزَلَ إِلَيْكَ كِتَابَهُ، وَيَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ وَالْفَهْمِ وَالْعَمَلِ، وَأَعَانَكَ بِمَدَدٍ مِنْ جُنْدِهِ الْكِرَامِ، يُثَبِّتُونَكَ وَيَحْرُسُونَكَ، وَيُحَارِبُونَ عَدُوَّكَ وَيَطْرُدُونَهُ عَنْكَ، وَيُرِيدُونَ مِنْكَ أَنْ لَا تَمِيلَ إِلَيْهِ وَلَا تُصَالِحَهُ، وَهُمْ يَكْفُونَكَ مُؤْنَتَهُ، وَأَنْتَ تَأْبَى إِلَّا مُظَاهَرَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَمُوَالَاتَهُ دُونَهُمْ، بَلْ تُظَاهِرُهُ وَتُوَالِيهِ دُونَ وَلِيِّكَ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} طَرَدَ إِبْلِيسَ عَنْ سَمَائِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جَنَّتِهِ، وَأَبْعَدَهُ مِنْ قُرْبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَكَ، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ أَبِيكَ آدَمَ، لِكَرَامَتِكَ عَلَيْهِ، فَعَادَاهُ وَأَبْعَدَهُ، ثُمَّ وَالَيْتَ عَدُوَّهُ، وَمِلْتَ إِلَيْهِ وَصَالَحْتَهُ، وَتَتَظَلَّمُ مَعَ ذَلِكَ، وَتَشْتَكِي الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ، وَتَقُولُ: عَوَّدُونِي الْوِصَالَ وَالْوَصْلُ عَــذْبُ *** وَرَمَوْنِي بِالصَّدِّ وَالصَّدُّ صَعْـبُ نَعَمْ، وَكَيْفَ لَا يَطْرُدُ مَنْ هَذِهِ مُعَامَلَتُهُ؟ وَكَيْفَ لَا يَبْعُدُ عَنْهُ مَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ؟ وَكَيْفَ يَجْعَلُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَأَهْلِ قُرْبِهِ مَنْ حَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا؟ قَدْ أَفْسَدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَكَدَّرَهُ. أَمَرَهُ اللَّهُ بِشُكْرِهِ، لَا لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ لِيَنَالَ بِهِ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ، فَجَعَلَ كُفْرَ نِعَمِهِ، وَالِاسْتِعَانَةَ بِهَا عَلَى مَسَاخِطِهِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ صَرْفِهَا عَنْهُ. وَأَمَرَهُ بِذِكْرِهِ لِيُذَكِّرَهُ بِإِحْسَانِهِ، فَجَعَلَ نِسْيَانَهُ سَبَبًا لِنِسْيَانِ اللَّهِ لَهُ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أَمَرَهُ بِسُؤَالِهِ لِيُعْطِيَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ، بَلْ أَعْطَاهُ أَجَلَّ الْعَطَايَا بِلَا سُؤَالٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ، يَشْكُو مَنْ يَرْحَمُهُ إِلَى مَنْ لَا يَرْحَمُهُ، وَيَتَظَلَّمُ مِمَّنْ لَا يَظْلِمُهُ، وَيَدَعُ مَنْ يُعَادِيهِ وَيَظْلِمُهُ، إِنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ اسْتَعَانَ بِنِعَمِهِ عَلَى مَعَاصِيهِ، وَإِنْ سَلَبَهُ ذَلِكَ ظَلَّ مُتَسَخِّطًا عَلَى رَبِّهِ وَهُوَ شَاكِيهِ، لَا يَصْلُحُ لَهُ عَلَى عَافِيَةٍ، وَلَا عَلَى ابْتِلَاءٍ، الْعَافِيَةُ تُلْقِيهِ إِلَى مَسَاخِطِهِ، وَالْبَلَاءُ يَدْفَعُهُ إِلَى كُفْرَانِهِ وَجُحُودِ نِعْمَتِهِ، وَشِكَايَتِهِ إِلَى خَلْقِهِ. دَعَاهُ إِلَى بَابِهِ فَمَا وَقَفَ عَلَيْهِ وَلَا طَرَقَهُ، ثُمَّ فَتَحَهُ لَهُ فَمَا عَرَّجَ عَلَيْهِ وَلَا وَلَجَهُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ يَدْعُوهُ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، فَعَصَى الرَّسُولَ، وَقَالَ: لَا أَبِيعُ نَاجِزًا بِغَائِبٍ، وَنَقْدًا بِنَسِيئَةٍ، وَلَا أَتْرُكُ مَا أَرَاهُ لِشَيْءٍ سَمِعْتُ بِهِ، وَيَقُولُ: خُذْ مَا رَأَيْتَ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ *** فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ فَإِنْ وَافَقَ حَظَّهُ طَاعَةُ الرَّسُولِ أَطَاعَهُ لِنَيْلِ حَظِّهِ، لَا لِرِضَى مُرْسِلِهِ، لَمْ يَزَلْ يَتَمَقَّتُ إِلَيْهِ بِمَعَاصِيهِ، حَتَّى أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَغْلَقَ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ. وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُؤَيِّسْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، بَلْ قَالَ: مَتَى جِئْتَنِي قَبِلْتُكَ، إِنْ أَتَيْتَنِي لَيْلًا قَبِلْتُكَ، وَإِنْ أَتَيْتَنِي نَهَارًا قَبِلْتُكَ، وَإِنْ تَقَرَّبْتَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْكَ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبْتَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْكَ بَاعًا، وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ، وَلَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً، وَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَمَنْ أَعْظَمُ مِنِّي جُودًا وَكَرَمًا؟ عِبَادِي يُبَارِزُونَنِي بِالْعَظَائِمِ، وَأَنَا أَكْلَؤُهُمْ عَلَى فُرُشِهِمْ، إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ: أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَايَ، خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِي، وَأَنَا الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي، وَهُمْ أَفْقَرُ شَيْءٍ إِلَيَّ. مَنْ أَقْبَلَ إِلَيَّ تَلَقَّيْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنِّي نَادَيْتُهُ مِنْ قَرِيبٍ، وَمَنْ تَرَكَ لِأَجْلِي أَعْطَيْتُهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ، وَمَنْ أَرَادَ رِضَايَ أَرَدْتُ مَا يُرِيدُ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِي وَقُوَّتِي أَلَنْتُ لَهُ الْحَدِيدَ. أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُقَنِّطُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إِنْ تَابُوا إِلَيَّ فَأَنَا حَبِيبُهُمْ، فَإِنِّي أُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَأُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلَيَّ فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ، لِأُطَهِّرَهُمْ مِنَ الْمَعَايِبِ. مَنْ آثَرَنِي عَلَى سِوَايَ آثَرْتُهُ عَلَى سِوَاهُ، الْحَسَنَةُ عِنْدِي بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَالسَّيِّئَةُ عِنْدِي بِوَاحِدَةٍ، فَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهَا وَاسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُهَا لَهُ. أَشْكُرُ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَمَلِ، وَأَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ الزَّلَلِ، رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَحِلْمِي سَبَقَ مُؤَاخَذَتِي، وَعَفْوِي سَبَقَ عُقُوبَتِي، أَنَا أَرْحَمُ بِعِبَادِي مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ مُهْلِكَةٍ دَوِيَةٍ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَطَلَبَهَا حَتَّى إِذَا أَيِسَ مِنْ حُصُولِهَا، نَامَ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ، فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا هِيَ عَلَى رَأْسِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ خِطَامُهَا بِالشَّجَرَةِ، فَاللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ. وَهَذِهِ فَرْحَةُ إِحْسَانٍ وَبِرٍّ وَلُطْفٍ، لَا فَرْحَةَ مُحْتَاجٍ إِلَى تَوْبَةِ عَبْدِهِ، مُنْتَفِعٍ بِهَا، وَكَذَلِكَ مُوَالَاتُهُ لِعَبْدِهِ إِحْسَانًا إِلَيْهِ، وَمَحَبَّةً لَهُ وَبِرًّا بِهِ، لَا يَتَكَثَّرُ بِهِ مِنْ قِلَّةٍ، وَلَا يَتَعَزَّزُ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَا يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْ غَلَبَةٍ، وَلَا يَعُدُّهُ لِنَائِبَةٍ، وَلَا يَسْتَعِينُ بِهِ فِي أَمْرٍ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ. فَهَذَا شَأْنُ الرَّبِّ وَشَأْنُ الْعَبْدِ، وَهُمْ يُقِيمُونَ أَعْذَارَ أَنْفُسِهِمْ، وَيَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ عَلَى أَقْدَارِهِ. اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْمَحَامِدِ وَالْمَجْـ *** ـدِ وَوَلَّى الْمَلَامَـةَ الرَّجُــلَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْقَائِلِ: تَطْوِي الْمَرَاحِلَ عَنْ حَبِيبِكَ دَائِبًا *** وَتَظَلُّ تَبْكِيهِ بِدَمْــعٍ سَاجِـمِ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَسْتَ مِنْ أَحْبَابِهِ *** تَشْكُو الْبِعَادَ وَأَنْتَ عَيْنُ الظَّالِمِ
فَهَذَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ طَلَبَ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ. وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ بِهَذَا أَنَّ طَلَبَ أَعْذَارِهِمْ فِي الْجِنَايَةِ عَائِدٌ عَلَى التَّوْبَةِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ. الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إِقَامَةَ أَعْذَارِهِمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْكَ، وَجِنَايَتِهِمْ عَلَيْكَ، وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْأَقْدَارِ، وَأَنَّ أَفْعَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، فَتَعْذِرَهُمْ بِالْقَدَرِ فِي حَقِّكَ، لَا فِي حَقِّ رَبِّكَ، فَهَذَا حَقٌّ، وَهُوَ مِنْ شَأْنِ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ، وَخَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْكُمَّلِ، يَفْنَى أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ، وَيَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ، يَنْظُرُ فِي التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْقَدَرِ، وَيَنْظُرُ فِي حَقِّ اللَّهِ إِلَى الْأَمْرِ، فَيَطْلُبُ لَهُمُ الْعُذْرَ فِي حَقِّهِ، وَيَمْحُو عَنْهُمُ الْعُذْرَ وَيَطْلُبُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ. وَقَالْتَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ خَادِمًا، وَلَا دَابَّةً، وَلَا شَيْئًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْهُ؟ وَكَانَ إِذَا عَاتَبَنِي بَعْضُ أَهْلِهِ يَقُولُ: دَعُوهُ، فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ. فَانْظُرْ إِلَى نَظَرِهِ إِلَى الْقَدَرِ عِنْدَ حَقِّهِ، وَقِيَامِهِ بِالْأَمْرِ، وَقَطَعَ يَدَ الْمَرْأَةِ عِنْدَ حَقِّ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَاكَ: الْقَدَرُ حَكَمَ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ عَزْمُهُ عَلَى تَحْرِيقِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ مَعَهُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَلَمْ يَقُلْ: لَوْ قُضِيَ لَهُمُ الصَّلَاةُ لَكَانَتْ. وَكَذَلِكَ رَجْمُهُ الْمَرْأَةَ وَالرَّجُلَ لَمَّا زَنَيَا، وَلَمْ يَحْتَجَّ فِي ذَلِكَ لَهُمَا بِالْقَدَرِ. وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ فِي الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ قَتَلُوا رَاعِيَهُ، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَلَمْ يَقُلْ: قُدِّرَ عَلَيْهِمْ، بَلْ أَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَتُرِكُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ، حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ بَسْطُهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَفَ بِاللَّهِ وَبِحَقِّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ بِالْقَدَرِ عَلَى تَرْكِ أَمْرِهِ، وَيَقْبَلَ الِاحْتِجَاجَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَعَ هَذَا فَعَذَرَ أَنَسًا بِالْقَدَرِ فِي حَقِّهِ، وَقَالَ لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. فَهَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي- وَإِنْ كَانَ حَقًّا- لَكَانَ لَيْسَ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ التَّوْبَةِ، وَلَا مِنْ أَرْكَانِهَا، وَلَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِهَا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ أَعْذَارَهُمْ فِي إِسَاءَتِهِمْ إِلَيْهِ لَمَا نَقَصَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ تَوْبَتِهِ، فَمَا أَرَادَ إِلَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنَازِلِ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْذُرَهُمْ بِالْقَدَرِ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمْ حُكْمَ الْأَمْرِ، فَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْقَدَرِ وَيَعْذِرَهُمْ بِهَا، وَيَنْظُرَ بِعَيْنِ الْأَمْرِ وَيَحْمِلَهُمْ عَلَيْهَا بِمُوجَبِهَا، فَلَا يَحْجُبُهُ مُطَالَعَةُ الْأَمْرِ عَنِ الْقَدَرِ، وَلَا مُلَاحَظَةُ الْقَدَرِ عَنِ الْأَمْرِ. فَهَذَا- وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَا بُدَّ مِنْهُ- فَلَا وَجْهَ لِعُذْرِهِمْ، وَلَيْسَ عُذْرُهُمْ مِنَ التَّوْبَةِ فِي شَيْءٍ الْبَتَّةَ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا- فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ بَاطِلًا- فَلَا هُمْ مَعْذُورُونَ، وَلَا طَلَبُ عُذْرِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ، بَلِ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْغَيْرَةَ لِلَّهِ، وَالْغَضَبَ لَهُ، مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ، فَتَعْطِيلُ عُذْرِ الْخَلِيقَةِ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَشِدَّةِ الْغَضَبِ: هُوَ مِنْ عَلَامَاتِ تَعْظِيمِ الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ أَوْلَى مِنْ عُذْرِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي هَذَا عُذْرُ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَقَتَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، وَنَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ، وَأَبِي جَهْلٍ وَأَصْحَابِهِ، وَإِبْلِيسَ وَجُنُودِهِ، وَكُلِّ كَافِرٍ وَظَالِمٍ، وَمُتَعَدٍّ حُدُودَ اللَّهِ، وَمُنْتَهِكٍ مَحَارِمَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْقَدَرِ، وَهُمْ مِنَ الْخَلِيقَةِ، أَفَيَكُونُ عُذْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ؟ فَهَذَا مِمَّا أَوْجَبَهُ السَّيْرُ فِي طَرِيقِ الْفَنَاءِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَجَعَلَهُ الْغَايَةَ الَّتِي يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ. ثُمَّ أَيُّ مُوَافَقَةٍ لِلْمَحْبُوبِ فِي عُذْرِ مَنْ لَا يَعْذِرُهُ هُوَ؟ بَلْ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ قُرْبِهِ، وَطَرَدَهُ عَنْ بَابِهِ، وَمَقَتَهُ أَشَدَّ الْمَقْتِ؟ فَإِذَا عَذَرْتَهُ، فَهَلْ يَكُونُ عُذْرُهُ إِلَّا تَعَرُّضًا لِسُخْطِ الْمَحْبُوبِ، وَسُقُوطًا مِنْ عَيْنِهِ؟. وَلَا تُوجِبُ هَذِهِ الزِّلَّةُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ إِهْدَارَ مَحَاسِنِهِ، وَإِسَاءَةَ الظَّنِّ بِهِ، فَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِمَامَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّقَدُّمِ فِي طَرِيقِ السُّلُوكِ الْمَحَلُّ الَّذِي لَا يُجْهَلُ، وَكُلُّ أَحَدٍ فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَتْرُوكٌ إِلَّا الْمَعْصُومَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالْكَامِلُ مَنْ عُدَّ خَطَؤُهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجَالِ الضَّنْكِ، وَالْمُعْتَرَكِ الصَّعْبِ، الَّذِي زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ، وَافْتَرَقَتْ بِالسَّالِكِينَ فِيهِ الطُّرُقَاتُ، وَأَشْرَفُوا- إِلَّا أَقَلَّهُمْ- عَلَى أَوْدِيَةِ الْهَلَكَاتِ. وَكَيْفَ لَا؟ وَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي تَجْرِي سَفِينَةُ رَاكِبِهِ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، وَالْمُعْتَرَكُ الَّذِي تَضَاءَلَتْ لِشُهُودِهِ شَجَاعَةُ الْأَبْطَالِ، وَتَحَيَّرَتْ فِيهِ عُقُولُ أَلِبَّاءِ الرِّجَالِ، وَوَصَلَتِ الْخَلِيقَةُ إِلَى سَاحِلِهِ يَبْغُونَ رُكُوبَهُ. فَمِنْهُمْ: مَنْ وَقَفَ مُطْرِقًا دَهِشًا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْلَأَ مِنْهُ عَيْنَهُ، وَلَا يَنْقُلَ عَنْ مَوْقِفِهِ قَدَمَهُ، قَدِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِعَظَمَةِ مَا شَاهَدَ مِنْهُ، فَقَالَ: الْوُقُوفُ عَلَى السَّاحِلِ أَسْلَمُ، وَلَيْسَ بِلَبِيبٍ مَنْ خَاطَرَ بِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ رَجَعَ عَلَى عَقِبَيْهِ لَمَّا سَمِعَ هَدِيرَهُ، وَصَوْتَ أَمْوَاجِهِ، وَلَمْ يُطِقْ نَظَرًا إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ رَمَى بِنَفْسِهِ فِي لُجَجِهِ، تَخْفِضُهُ مَوْجَةٌ، وَتَرْفَعُهُ أُخْرَى. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَلَى خَطَرٍ، إِذِ الْوَاقِفُ عَلَى السَّاحِلِ عُرْضَةٌ لِوُصُولِ الْمَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَالْهَارِبُ- وَلَوْ جَدَّ فِي الْهَرَبِ- فَمَا لَهُ مَصِيرٌ إِلَّا إِلَيْهِ، وَالْمُخَاطِرُ نَاظِرٌ إِلَى الْغَرْقَى كُلَّ سَاعَةٍ بِعَيْنَيْهِ، وَمَا نَجَا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا الصِّنْفُ الرَّابِعُ، وَهُمُ الَّذِينَ انْتَظَرُوا مُوَافَاةَ سَفِينَةِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا قَرُبَتْ مِنْهُمْ نَادَاهُمُ الرُّبَّانُ {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِاهَا وَمُرْسَاهَا} فَهِيَ سَفِينَةُ نُوحٍ حَقًّا، وَسَفِينَةُ مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ، فَرَكِبُوا سَفِينَةَ الْأَمْرِ بِالْقَدَرِ، تَجْرِي بِهِمْ فِي تَصَارِيفِ أَمْوَاجِهِ عَلَى حُكْمِ التَّسْلِيمِ لِمَنْ بِيَدِهِ التَّصَرُّفُ فِي الْبِحَارِ، فَلَمْ يَكُ إِلَّا غَفْوَةً، حَتَّى قِيلَ لِأَرْضِ الدُّنْيَا وَسَمَائِهَا: يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي، وَغِيضَ الْمَاءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى جُودِيِّ دَارِ الْقَرَارِ. وَالْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ السَّفِينَةِ- كَقَوْمِ نُوحٍ- أُغْرِقُوا، ثُمَّ أُحْرِقُوا، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْعَالَمِينَ {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ثُمَّ نُودِيَ بِلِسَانِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، تَحْقِيقًا لِتَوْحِيدِهِ، وَإِثْبَاتًا لِحُجَّتِهِ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}.
وَرَاكِبُ هَذَا الْبَحْرِ فِي سَفِينَةِ الْأَمْرِ، وَظِيفَتُهُ مُصَادَمَةُ أَمْوَاجِ الْقَدَرِ، وَمُعَارَضَتُهَا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَإِلَّا هَلَكَ، فَيَرُدُّ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، وَهَذَا سَيْرُ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ مِنَ الْعَارِفِينَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ: النَّاسُ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا، إِلَّا أَنَا، فَانْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةٌ فَنَازَعْتُ أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ، وَالرَّجُلُ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ، لَا مَنْ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا مَعَ الْقَدَرِ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي مَعَاشِهِمْ إِلَّا بِدَفْعِ الْأَقْدَارِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فَكَيْفَ فِي مَعَادِهِمْ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ تُدْفَعَ السَّيِّئَةُ- وَهِيَ مِنْ قَدَرِهِ- بِالْحَسَنَةِ- وَهِيَ مِنْ قَدَرِهِ- وَكَذَلِكَ الْجُوعُ مِنْ قَدَرِهِ، وَأَمَرَ بِدَفْعِهِ بِالْأَكْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَدَرِهِ، وَلَوِ اسْتَسْلَمَ الْعَبْدُ لِقَدَرِ الْجُوعِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِهِ بِقَدَرِ الْأَكْلِ، حَتَّى مَاتَ: مَاتَ عَاصِيًا، وَكَذَلِكَ الْبَرْدُ وَالْحَرُّ وَالْعَطَشُ، كُلُّهَا مِنْ أَقْدَارِهِ، وَأَمَرَ بِدَفْعِهَا بِأَقْدَارٍ تُضَادُّهَا، وَالدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ وَالدَّفْعُ مِنْ قَدَرِهِ. وَقَدْ أَفْصَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى كُلَّ الْإِفْصَاحِ، إِذْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا، وَرُقًى نَسْتَرْقِي بِهَا، وَتُقًى نَتَّقِي بِهَا، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَإِذَا طَرَقَ الْعَدُوُّ مِنَ الْكُفَّارِ بَلَدَ الْإِسْلَامِ طَرَقُوهُ بِقَدَرِ اللَّهِ، أَفَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ، وَتَرْكُ دَفْعِهِ بِقَدَرٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي يَدْفَعُونَ بِهِ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِهِ؟ وَكَذَلِكَ الْمَعْصِيَةُ إِذَا قُدِّرَتْ عَلَيْكَ، وَفَعَلْتَهَا بِالْقَدَرِ، فَادْفَعْ مُوجِبَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَهِيَ مِنَ الْقَدَرِ.
وَدَفْعُ الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: دَفْعُ الْقَدَرِ الَّذِي قَدِ انْعَقَدَتْ بِأَسْبَابِهِ- وَلَمَّا يَقَعْ- بِأَسْبَابٍ أُخْرَى مِنَ الْقَدَرِ تُقَابِلُهُ، فَيَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ، كَدَفْعِ الْعَدُوِّ بِقِتَالِهِ، وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: دَفْعُ الْقَدَرِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ وَاسْتَقَرَّ بِقَدَرٍ آخَرَ يَرْفَعُهُ وَيُزِيلُهُ، كَدَفْعِ قَدَرِ الْمَرَضِ بِقَدَرِ التَّدَاوِي، وَدَفْعِ قَدَرِ الذَّنْبِ بِقَدَرِ التَّوْبَةِ، وَدَفْعِ قَدَرِ الْإِسَاءَةِ بِقَدَرِ الْإِحْسَانِ. فَهَذَا شَأْنُ الْعَارِفِينَ وَشَأْنُ الْأَقْدَارِ، لَا الِاسْتِسْلَامُ لَهَا، وَتَرْكُ الْحَرَكَةِ وَالْحِيلَةِ، فَإِنَّهُ عَجْزٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، فَإِذَا غَلَبَ الْعَبْدُ، وَضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَجَالٌ، فَهُنَالِكَ الِاسْتِسْلَامُ لِلْقَدَرِ، وَالِانْطِرَاحُ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الْغَاسِلِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُنَا يَنْفَعُ الْفَنَاءُ فِي الْقَدَرِ، عِلْمًا وَحَالًا وَشُهُودًا، وَأَمَّا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ، وَحُصُولِ الْأَسْبَابِ، فَالْفَنَاءُ النَّافِعُ: أَنْ يَفْنَى عَنِ الْخَلْقِ بِحُكْمِ اللَّهِ، وَعَنْ هَوَاهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنْ إِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَعَنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَإِعَانَتِهِ، فَهَذَا الَّذِي قَامَ بِحَقِيقَةِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} " عِلْمًا وَحَالًا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَسَرَائِرُ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ، وَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ، لِأَنَّ التَّائِبَ دَاخِلٌ فِي الْجَمِيعِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فَأَمَرَ التَّائِبَ بِالتَّوْبَةِ. تَمْيِيزُ التَّقِيَّةِ مِنَ الْعِزَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبَةِ تَقْوَى اللَّهِ، وَهُوَ خَوْفُهُ وَخَشْيَتُهُ، وَالْقِيَامُ بِأَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، فَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، وَيَتْرُكُ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ عِزَّ الطَّاعَةِ، فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ وَلِلتَّوْبَةِ عِزًّا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَلَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ الْعِزَّةَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهَا تَحْصُلُ لَهُ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ، فَمَنْ تَابَ لِأَجْلِ الْعِزَّةِ فَتَوْبَتُهُ مَدْخُولَةٌ، وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ " أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ لِفُلَانٍ الزَّاهِدِ: أَمَّا زُهْدُكَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ تَعَجَّلْتَ بِهِ الرَّاحَةَ، وَأَمَّا انْقِطَاعُكَ إِلَيَّ فَقَدِ اكْتَسَبْتَ بِهِ الْعِزَّةَ، وَلَكِنْ مَا عَمِلْتَ فِيمَا لِي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا لَكَ عَلَيَّ بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: هَلْ وَالَيْتَ فِيَّ وَلِيًّا، أَوْ عَادَيْتَ فِيَّ عَدُوًّا؟ ". يَعْنِي أَنَّ الرَّاحَةَ وَالْعِزَّ حَظُّكَ، وَقَدْ نُلْتَهُمَا بِالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ أَيْنَ الْقِيَامُ بِحَقِّي، وَهُوَ الْمُوَالَاةُ فِيَّ وَالْمُعَادَاةُ فِيَّ؟. فَالشَّأْنُ فِي التَّفْرِيقِ فِي الْأَوَامِرِ بَيْنَ حَظِّكَ وَحَقِّ رَبِّكَ عِلْمًا وَحَالًا. وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّادِقِينَ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالُ نُفُوسِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَمِيزُهُ إِلَّا أُولُو الْبَصَائِرِ مِنْهُمْ، وَهُمْ فِي الصَّادِقِينَ كَالصَّادِقِينَ فِي النَّاسِ. وَأَمَّا نِسْيَانُ الْجِنَايَةِ: فَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَرْبَابُ الطَّرِيقِ. فَمِنْهُمْ: مَنْ رَأَى الِاشْتِغَالَ عَنْ ذِكْرِ الذَّنْبِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ صَفْحًا، فَصَفَاءُ الْوَقْتِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى بِالتَّائِبِ وَأَنْفَعُ لَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: ذِكْرُ الْجَفَا فِي وَقْتِ الصَّفَا جَفَا. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْسَى ذَنْبَهُ، بَلْ لَا يَزَالُ جَاعِلًا لَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ يُلَاحِظُهُ كُلَّ وَقْتٍ، فَيُحْدِثُ لَهُ ذَلِكَ انْكِسَارًا وَذُلًّا وَخُضُوعًا، أَنْفَعَ لَهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ وَصَفَاءِ وَقْتِهِ. قَالُوا: وَلِهَذَا نَقَشَ دَاوُدُ الْخَطِيئَةَ فِي كَفِّهِ، وَكَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَبْكِي. قَالُوا: وَمَتَى تُهْتَ عَنِ الطَّرِيقِ فَارْجِعْ إِلَى ذَنْبِكَ تَجِدِ الطَّرِيقَ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّكَ إِذَا رَجَعْتَ إِلَى ذَنْبِكَ انْكَسَرْتَ وَذَلَلْتَ، وَأَطْرَقْتَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَاشِعًا ذَلِيلًا خَائِفًا، وَهَذِهِ طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ. وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا أَحَسَّ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ حَالَ الصَّفَاءِ غَيْمًا مِنَ الدَّعْوَى، وَرَقِيقَةً مِنَ الْعَجَبِ وَنِسْيَانِ الْمِنَّةِ، وَخَطَفَتْهُ نَفْسُهُ عَنْ حَقِيقَةِ فَقْرِهِ وَنَقْصِهِ، فَذِكْرُ الذَّنْبِ أَنْفَعُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَتِهِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَكَمَالَ افْتِقَارِهِ إِلَيْهِ، وَفَنَائِهِ بِهِ، وَعَدَمَ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ، وَقَدْ خَالَطَ قَلْبَهُ حَالُ الْمَحَبَّةِ، وَالْفَرَحِ بِاللَّهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، وَشُهُودِ سَعَةِ رَحْمَتِهِ وَحِلْمِهِ وَعَفْوِهِ، وَقَدْ أَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَنِسْيَانُ الْجِنَايَةِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الذَّنْبِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعُ، فَإِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ الْجِنَايَةِ تَوَارَى عَنْهُ ذَلِكَ، وَنَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهَذَا مِنْ حَسَدِ الشَّيْطَانِ لَهُ، أَرَادَ أَنْ يَحُطَّهُ عَنْ مَقَامِهِ، وَسَيَّرَ قَلْبَهُ فِي مَيَادِينِ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّوْقِ إِلَى وَحْشَةِ الْإِسَاءَةِ، وَحَصْرِ الْجِنَايَةِ. وَالْأَوَّلُ يَكُونُ شُهُودُهُ لِجِنَايَتِهِ مِنَّةً مِنَ اللَّهِ، مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ، لِيُؤَمِّنَهُ بِهَا مِنْ مَقْتِ الدَّعْوَى، وَحِجَابِ الْكِبْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَهَذَا لَوْنٌ. وَهَذَا الْمَحَلُّ فِيهِ أَمْرٌ وَرَاءَ الْعِبَارَةِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ فَهِيَ مِنَ الْمُجْمَلَاتِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَيَكُونُ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا حَقًّا، فَيُطْلِقُهُ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ. فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ، وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْحَسَنَاتِ مِنْ أَعْظَمِ السَّيِّئَاتِ، وَأَقْبَحِ الْجِنَايَاتِ، بَلْ هِيَ كُفْرٌ، إِنْ أُخِذَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ التَّوْبَةِ مِنَ التَّوْبَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَهَلْ يُسَوَّغُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْإِيمَانِ؟. وَلَكِنَّ مُرَادَهُمْ أَنْ يَتُوبَ مِنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا حَصَلَتْ لَهُ بِمِنَّةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَلَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ تُسْمَحْ بِهَا الْبَتَّةَ، فَإِذَا رَآهَا وَشَهِدَ صُدُورَهَا مِنْهُ وَوُقُوعَهَا بِهِ، وَغَفَلَ عَنْ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ تَابَ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَالْغَفْلَةِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ وَالْغَفْلَةَ لَيْسَتَ هِيَ التَّوْبَةَ، وَلَا جُزْءًا مِنْهَا، وَلَا شَرْطًا لَهَا، بَلْ هِيَ جِنَايَةٌ أُخْرَى عَرَضَتْ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَيَتُوبُ مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، كَمَا تَابَ مِنَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَمَا تَابَ إِلَّا مِنْ ذَنْبٍ، أَوَّلًا وَآخِرًا، فَكَيْفَ يُقَالُ: يَتُوبُ مِنَ التَّوْبَةِ؟. هَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْبَةِ عِلَّةٌ وَنَقْصٌ، وَآفَةٌ تَمْنَعُ كَمَالَهَا، وَقَدْ يَشْعُرُ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَيَتُوبُ مِنْ نُقْصَانِ التَّوْبَةِ، وَعَدَمِ تَوْفِيَتِهَا حَقَّهَا. وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْبَةٌ مِنْ عَدَمِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْهَا طَاعَةٌ لَا يُتَابُ مِنْهَا، وَالْقَدْرَ الْمَفْقُودَ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ. فَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ إِنَّمَا تُعْقَلُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. نَعَمْ، هَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مَقَامُ أُنْسٍ بِاللَّهِ، وَصَفَا وَقْتُهُ مَعَ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، وَاشْتِغَالُهُ بِذِكْرِ آلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنْفَعَ شَيْءٍ لَهُ، حَتَّى نَزَلَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جِنَايَةٍ سَالِفَةٍ قَدْ تَابَ مِنْهَا، وَطَالَعَ الْجِنَايَةَ وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا نَقْصٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ نُزُولٌ مِنَ الصَّفَاءِ إِلَى الْجَفَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَلَطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَوَّلُهَا: أَنْ يَنْظُرَ الْجِنَايَةَ وَالْقَضِيَّةَ، فَيَعْرِفَ مُرَادَ اللَّهِ فِيهَا، إِذْ خَلَّاكَ وَإِتْيَانَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا خَلَّى الْعَبْدَ وَالذَّنَبَ لِأَجْلِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَبِرَّهُ فِي سَتْرِهِ، وَحِلْمَهُ فِي إِمْهَالِ رَاكِبِهِ، وَكَرَمَهُ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ، وَفَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ. الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَيُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ بِحُجَّتِهِ. اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَصِيرَةِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْخَطِيئَةُ فَلَهُ نَظَرٌ إِلَى خَمْسَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَيُحَدِثَ لَهُ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهَا خَطِيئَةً، وَالْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِالذَّنْبِ. الثَّانِي: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَيُحْدِثَ لَهُ ذَلِكَ خَوْفًا وَخَشْيَةً، تَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَمْكِينِ اللَّهِ لَهُ مِنْهَا، وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَتَقْدِيرِهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَصَمَهُ مِنْهَا، فَيُحَدِثُ لَهُ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ، وَتُوجِبُ لَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ عُبُودِيَّةً بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، لَا تَحْصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا الْبَتَّةَ، وَيَعْلَمُ ارْتِبَاطَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُوجَبُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَأَثَرُهَا فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ وَصِفَةٍ مُقْتَضٍ لِأَثَرِهِ وَمُوجَبِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَهَذَا الْمَشْهَدُ يُطْلِعُهُ عَلَى رِيَاضٍ مُونِقَةٍ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ، وَأَسْرَارُ الْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا نِطَاقُ الْكَلِمِ. فَمِنْ بَعْضِهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَزِيزُ الَّذِي يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لِكَمَالِ عِزَّتِهِ حَكَمَ عَلَى الْعَبْدِ وَقَضَى عَلَيْهِ، بِأَنْ قَلَّبَ قَلْبَهُ وَصَرَّفَ إِرَادَتَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَحَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَهُ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعِزَّةِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، وَغَايَةُ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي بَدَنِكَ وَظَاهِرِكَ، وَأَمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا ذُو الْعِزَّةِ الْبَاهِرَةِ. فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ عِزَّ سَيِّدِهِ وَلَاحَظَهُ بِقَلْبِهِ، وَتَمَكَّنَ شُهُودَهُ مِنْهُ، كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعَ لَهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ لَا مَعَ نَفْسِهِ. وَمِنْ مَعْرِفَةِ عِزَّتِهِ فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ مَقْهُورٌ، نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، لَا عِصْمَةَ لَهُ إِلَّا بِعِصْمَتِهِ، وَلَا تَوْفِيقَ لَهُ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، فِي قَبْضَةِ عَزِيزٍ حَمِيدٍ. وَمِنْ شُهُودِ عِزَّتِهِ أَيْضًا فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْكَمَالَ وَالْحَمْدَ، وَالْغَنَاءَ التَّامَّ، وَالْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ أَوْلَى بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّمِّ، وَالْعَيْبِ وَالظُّلْمِ وَالْحَاجَةِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ شُهُودُهُ لِذُلِّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ، ازْدَادَ شُهُودُهُ لِعِزَّةِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ، وَحَمْدِهِ وَغِنَاهُ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، فَنَقْصُ الذَّنْبِ وَذِلَّتُهُ يُطْلِعُهُ عَلَى مَشْهَدِ الْعِزَّةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُرِيدُ مَعْصِيَةَ مَوْلَاهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا شَهِدَ جَرَيَانَ الْحُكْمِ، وَجَعْلَهُ فَاعِلًا لِمَا هُوَ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ، مُرِيدٌ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَكَأَنَّهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ، مُرِيدٌ غَيْرُ مُرِيدٍ، شَاءٍ غَيْرُ شَاءٍ، فَهَذَا يَشْهَدُ عِزَّةَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ، وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَعْرِفَ بِرَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَتْرِهِ عَلَيْهِ حَالَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، مَعَ كَمَالِ رُؤْيَتِهِ لَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَفَضَحَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوهُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ بِرِّهِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْبَرُّ، وَهَذَا الْبِرُّ مِنْ سَيِّدِهِ كَانَ عَنْ بِهِ كَمَالُ غِنَاهُ عَنْهُ، وَكَمَالُ فَقَرِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَيَشْتَغِلُ بِمُطَالَعَةِ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَمُشَاهَدَةِ هَذَا الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ، فَيَذْهَلُ عَنْ ذِكْرِ الْخَطِيئَةِ، فَيَبْقَى مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِجِنَايَتِهِ، وَشُهُودِ ذُلِّ مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِاللَّهِ وَالْغَفْلَةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَعْلَى، وَالْمَقْصِدُ الْأَسْنَى. وَلَا يُوجِبُ هَذَا نِسْيَانَ الْخَطِيئَةِ مُطْلَقًا، بَلْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَإِذَا فَقَدَهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُطَالَعَةِ الْخَطِيئَةِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ وَمَقَامٍ عُبُودِيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ. وَمِنْهَا: شُهُودُ حِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي إِمْهَالِ رَاكِبِ الْخَطِيئَةِ، وَلَوْ شَاءَ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يُعَجِّلُ، فَيُحَدِثُ لَهُ ذَلِكَ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِاسْمِهِ الْحَلِيمِ، وَمُشَاهَدَةَ صِفَةِ الْحِلْمِ، وَالتَّعَبُّدَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ ذَلِكَ بِتَوَسُّطِ الذَّنْبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَصْلَحُ لِلْعَبْدِ، وَأَنْفَعُ مِنْ فَوْتِهَا، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ. وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ كَرَمَ رَبِّهِ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ إِذَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاعْتِذَارِ، لَا بِالْقَدَرِ، فَإِنَّهُ مُخَاصَمَةٌ وَمُحَاجَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَقْبَلُ عُذْرَهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمَحَبَّةً أُخْرَى لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَحَبَّتَكَ لِمَنْ شَكَرَكَ عَلَى إِحْسَانِكَ وَجَازَاكَ بِهِ، ثُمَّ غَفَرَ لَكَ إِسَاءَتَكَ وَلَمْ يُؤَاخِذْكَ بِهَا أَضْعَافُ مَحَبَّتِكَ عَلَى شُكْرِ الْإِحْسَانِ وَحْدَهُ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ بَعْدَ الذَّنْبِ لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ فَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلَوْ أَخَذَكَ بِمَحْضِ حَقِّهِ، كَانَ عَادِلًا مَحْمُودًا، وَإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِكَ، فَيُوجِبُ لَكَ ذَلِكَ أَيْضًا شُكْرًا لَهُ وَمَحَبَّةً، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ، وَفَرَحًا وَابْتِهَاجًا بِهِ، وَمَعْرِفَةً لَهُ بِاسْمِهِ الْغَفَّارِ وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَتَعَبُّدًا بِمُقْتَضَاهَا، وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُكَمِّلَ لِعَبْدِهِ مَرَاتِبَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ النَّفْسَ فِيهَا مُضَاهَاةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَلَوْ قَدَرَتْ لَقَالَتْ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنَّهُ قَدَرَ فَأَظْهَرَ، وَغَيْرُهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ، وَإِنَّمَا يُخَلِّصُهَا مِنْ هَذِهِ الْمُضَاهَاةِ ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَهِيَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ، فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَكُلُّ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: ذُلُّ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ ذُلُّ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَهُوَ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: ذُلُّ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ ذَلِيلٌ بِالذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَهُ يَكُونُ ذُلُّهُ، فَالْمَحَبَّةُ أُسِّسَتْ عَلَى الذِّلَّةِ لِلْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ: اخْضَعْ وَذُلَّ لِمَنْ تُحِبُّ فَلَيْسَ فِـي *** حُكْمِ الْهَوَى أَنَفٌ يُشَالُ وَيُعْقَـدُ وَقَالَ آخَرُ: مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ *** عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِــرِ
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعُ كَانَ الذُّلُّ لِلَّهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، إِذْ يَذِلُّ لَهُ خَوْفًا وَخَشْيَةً، وَمَحَبَّةً وَإِنَابَةً، وَطَاعَةً، وَفَقْرًا وَفَاقَةً. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُسَمَّى بِالْفَقْرِ، بَلْ هُوَ لُبُّ الْعُبُودِيَّةِ وَسِرُّهَا، وَحُصُولُهُ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِلْعَبْدِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَوَازِمِهِ مِنْ أَسْبَابِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَأَسْبَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، إِذْ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالْغَايَةُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِ هَذَا الْمَلْزُومِ وَلَازَمِهِ، مَصْلَحَةُ وُجُودِهِ خَيْرٌ مِنْ مَصْلَحَةِ فَوْتِهِ، وَمَفْسَدَةُ فَوْتِهِ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ وُجُودهِ، وَالْحِكْمَةُ مَبْنَاهَا عَلَى دَفْعِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا، وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَقَدْ فَتَحَ لَكَ الْبَابَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَادْخُلْ، وَإِلَّا فَرُدَّ الْبَابَ وَارْجِعْ بِسَلَامٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى تَقْتَضِي آثَارُهَا اقْتِضَاءَ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ لِمُسَبِّبَاتِهَا، فَاسْمُ السَّمِيعِ، الْبَصِيرِ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا وَمُبْصَرًا، وَاسْمُ الرَّزَّاقِ يَقْتَضِي مَرْزُوقًا، وَاسْمُ الرَّحِيمِ يَقْتَضِي مَرْحُومًا، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْغَفُورِ، وَالْعَفُوِّ، وَالتَّوَّابِ، وَالْحَلِيمِ يَقْتَضِي مَنْ يَغْفِرُ لَهُ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِ، وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَحْلُمُ، وَيَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، إِذْ هِيَ أَسْمَاءٌ حُسْنَى وَصِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُ حِكْمَةٍ وَإِحْسَانٍ وَجُودٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ آثَارِهَا فِي الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ. وَأَنْتَ إِذَا فَرَضْتَ الْحَيَوَانَ بِجُمْلَتِهِ مَعْدُومًا، فَمَنْ يَرْزُقُ الرَّزَّاقُ سُبْحَانَهُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْمَعْصِيَةَ وَالْخَطِيئَةَ مُنْتَفِيَةً مِنَ الْعَالَمِ، فَلِمَنْ يَغْفِرُ؟ وَعَمَّنْ يَعْفُو؟ وَعَلَى مَنْ يَتُوبُ وَيَحْلُمُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْفَاقَاتِ كُلَّهَا قَدْ سُدَّتْ، وَالْعَبِيدُ أَغْنِيَاءُ مُعَافَوْنَ، فَأَيْنَ السُّؤَالُ وَالتَّضَرُّعُ وَالِابْتِهَالُ؟ وَالْإِجَابَةُ وَشُهُودُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ؟ فَسُبْحَانَ مَنْ تَعَرَّفَ إِلَى خَلْقِهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ، وَفَتَحَ لَهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعَ الطُّرُقَاتِ، ثُمَّ نَصَبَ إِلَيْهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}. وَمِنْهَا: السِّرُّ الْأَعْظَمُ، الَّذِي لَا تَقْتَحِمُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَجْسُرُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يُنَادِي عَلَيْهِ مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، بَلْ شَهِدَتْهُ قُلُوبُ خَوَاصِّ الْعِبَادِ، فَازْدَادَتْ بِهِ مَعْرِفَةً لِرَبِّهَا وَمَحَبَّةً لَهُ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَلَهَجًا بِذِكْرِهِ، وَشُهُودًا لِبِرِّهِ، وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمُطَالَعَةً لِسِرِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِشْرَافًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ- حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ- مِنْ أَحَدِكُمْ، كَانَ عَلَى رَاحِلَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ- مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ- اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ خَطَأً مِنْ فَرَحٍ شَدِيدٍ، أَوْ غَيْظٍ شَدِيدٍ، وَنَحْوِهِ، لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْثِيرَ الْغَضَبِ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا، فَلَا يَنْبَغِي مُؤَاخَذَةُ الْغَضْبَانِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي حَالِ شِدَّةِ غَضَبِهِ مِنْ نَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِذَلِكَ، وَلَا رِدَّتُهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِغْلَاقِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ بِأَنَّهُ الْغَضَبُ، وَفَسَّرَهُ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَفَسَّرُوهُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ، وَهُوَ مِنَ الْغَلَقِ، لِانْغِلَاقِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْفَتِحْ قَلْبُهُ لِمَعْنًى مَا قَالَهُ. وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْفَرَحَ لَهُ شَأْنٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ إِهْمَالُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِعِزِّ جَلَالِهِ. وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى بِنَا طَيُّ الْكَلَامِ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَفْهَامِ بَنِي الزَّمَانِ وَعُلُومِهِمْ، وَنِهَايَةِ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنِ احْتِمَالِهِ. غَيْرَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيَسُوقُ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ إِلَى تُجَّارِهَا، وَمَنْ هُوَ عَارِفٌ بِقَدْرِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الطَّرِيقِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ عَارِفًا بِهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اخْتَصَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ بِأَنْ كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَخَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ، وَخَصَّهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقُرْبِهِ وَإِكْرَامِهِ بِمَا لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى مَلَائِكَتَهُ- الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ قُرْبِهِ- اسْتَخْدَمَهُمْ لَهُ، وَجَعَلَهُمْ حَفَظَةً لَهُ فِي مَنَامِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَخَاطَبَهُ وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمُ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ، وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْخَوَاصَّ وَالْأَحْبَارَ، وَجَعَلَهُمْ مَعْدِنَ أَسْرَارِهِ، وَمَحَلَّ حِكْمَتِهِ، وَمَوْضِعَ حُبِّهِ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَخَلَقَ الْأَمْرَ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَدَارُهُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَإِنَّهُ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ. فَلِلْإِنْسَانِ شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ خَلَقَ أَبَاهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَظْهَرَ فَضْلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَطَرَدَ إِبْلِيسَ عَنْ قُرْبِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ بَابِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ مَعَ السَّاجِدِينَ، وَاتَّخَذَهُ عَدُوًّا لَهُ. فَالْمُؤْمِنُ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَخِيَرَةُ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَلِيَتَوَاتَرَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، وَلِيَخُصَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ بِمَا لَمْ تَنَلْهُ أُمْنِيَّتُهُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ، لِيَسْأَلَهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْعَطَايَا الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَحَبَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَحَبَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَاتَّخَذَهُ مَحْبُوبًا لَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ أَفْضَلَ مَا يُعِدُّهُ مُحِبٌّ غَنِيٌّ قَادِرٌ جَوَادٌ لِمَحْبُوبِهِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدًا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِيهِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَعْلَمَهُ فِي عَهْدِهِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَيَزِيدُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، وَمَا يُبْعِدُهُ مِنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِهِ. وَلِلْمَحْبُوبِ عَدُوٌّ، هُوَ أَبْغَضُ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، قَدْ جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ، دُونَ وَلِيِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمُ الْحَقِّ، وَاسْتَقْطَعَ عِبَادَهُ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمْ حِزْبًا ظَاهَرُوهُ وَوَالَوْهُ عَلَى رَبِّهِمْ، وَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُ مَعَ هَذَا الْعَدُوِّ، يَدْعُونَ إِلَى سُخْطِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَيَسُبُّونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ، وَيَفْتِنُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُؤْذُونَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَيَجْهَدُونَ عَلَى إِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ وَإِقَامَةِ الدَّوْلَةِ لَهُمْ، وَمَحْوِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَبْدِيلِهِ بِكُلِّ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَعَرَّفَهُ بِهَذَا الْعَدُوِّ وَطَرَائِقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَحَذَّرَهُ مُوَالَاتَهُمْ وَالدُّخُولَ فِي زُمْرَتِهِمْ وَالْكَوْنَ مَعَهُمْ. وَأَخْبَرَهُ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَحِلْمُهُ عُقُوبَتَهُ، وَعَفْوُهُ مُؤَاخَذَتَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ النِّعْمَةَ، وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ وَالْجُودَ وَالْعَطَاءَ وَالْبِرَّ، وَأَنَّ الْفَضْلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَالْجُودَ كُلَّهُ لَهُ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِ أَنْ يَجُودَ عَلَى عِبَادِهِ وَيُوسِعَهُمْ فَضْلًا، وَيَغْمُرَهُمْ إِحْسَانًا وَجُودًا، وَيُتِمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ، وَيُضَاعِفَ لَدَيْهِمْ مِنَّتَهُ، وَيَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ. فَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَيَخْلُقُهُ أَبَدًا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى جُودِهِ، فَلَيْسَ الْجَوَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا هُوَ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ فَمِنْ جُودِهِ، وَمَحَبَّتُهُ لِلْجُودِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبِرِّ وَالْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ فَوْقَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْخَلْقِ، أَوْ يَدُورُ فِي أَوْهَامِهِمْ، وَفَرَحُهُ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ أَشَدُّ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ، أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مَا كَانَ قَدْرًا، فَإِذَا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَعَظُمَ قَدْرُ الْعَطِيَّةِ وَالنَّفْعِ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِفَرَحِ الْمُعْطِي؟ فَفَرَحُ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ بِعَطَائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ فَرَحِ هَذَا بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، إِذْ هَذَا شَأْنُ الْجَوَادِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ يُعْطِيهِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ غَائِبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ، عَنْ لَذَّةِ الْمُعْطِي، وَابْتِهَاجِهِ وَسُرُورِهِ، هَذَا مَعَ كَمَالِ حَاجَتِهِ إِلَى مَا يُعْطِيهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ بِاسْتِخْلَافِ مِثْلِهِ، وَخَوْفِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَهَابِهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِذُلِّ الِاسْتِعَانَةِ بِنَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَنَفْسُهُ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ. فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَوَّلَ خَلْقِهِ وَآخِرَهُمْ، وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ، وَرَطْبَهُمْ وَيَابِسَهُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا سَأَلَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، كَمَا أَنَّهُ الْحَيُّ لِذَاتِهِ، الْعَلِيمُ لِذَاتِهِ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لِذَاتِهِ، فَجُودُهُ الْعَالِي مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَالْعَفْوُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالرَّحْمَةُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَالْفَضْلُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ. فَإِذَا تَعَرَّضَ عَبْدُهُ وَمَحْبُوبُهُ الَّذِي خَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَعَدَّ لَهُ أَنْوَاعَ كَرَامَتِهِ، وَفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ، وَاعْتَنَى بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُهْمِلْهُ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى، فَتَعَرَّضَ لِغَضَبِهِ، وَارْتَكَبَ مَسَاخِطَهُ وَمَا يَكْرَهُهُ وَأَبِقَ مِنْهُ، وَوَالَى عَدُوَّهُ وَظَاهَرَهُ عَلَيْهِ، وَتَحَيَّزَ إِلَيْهِ، وَقَطَعَ طَرِيقَ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنَ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ خِلَافَ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ مِنَ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، وَتَعَرَّضَ لِإِغْضَابِهِ وَإِسْخَاطِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَأَنْ يَصِيرَ غَضَبُهُ وَسُخْطُهُ فِي مَوْضِعِ رِضَاهُ، وَانْتِقَامُهُ وَعُقُوبَتُهُ فِي مَوْضِعِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَعَطَائِهِ، فَاسْتَدْعَى بِمَعْصِيَتِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا سِوَاهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَخِلَافُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ مِنَ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ. فَبَيْنَمَا هُوَ حَبِيبُهُ الْمُقَرَّبُ الْمَخْصُوصُ بِالْكَرَامَةِ، إِذِ انْقَلَبَ آبِقًا شَارِدًا، رَادًّا لِكَرَامَتِهِ، مَائِلًا عَنْهُ إِلَى عَدُوِّهِ، مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَبَيْنَمَا ذَلِكَ الْحَبِيبُ مَعَ الْعَدُوِّ فِي طَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، نَاسِيًا لِسَيِّدِهِ، مُنْهَمِكًا فِي مُوَافَقَةِ عَدُوِّهِ، قَدِ اسْتَدْعَى مِنْ سَيِّدِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ فِكْرَةٌ فَتَذَكَّرَ بِرَّ سَيِّدِهِ وَعَطْفَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ قُدِمَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، فَفَرَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ بَلَدِ عَدُوِّهِ، وَجَدَّ فِي الْهَرَبِ إِلَيْهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَابِهِ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ، وَتَوَسَّدَ ثَرَى أَعْتَابِهِ، مُتَذَلِّلًا مُتَضَرِّعًا، خَاشِعًا بَاكِيًا آسِفًا، يَتَمَلَّقُ سَيِّدَهُ وَيَسْتَرْحِمُهُ، وَيَسْتَعْطِفُهُ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، قَدْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَسْلَمَ لَهُ وَأَعْطَاهُ قِيَادَهُ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ زِمَامَهُ، فَعَلِمَ سَيِّدُهُ مَا فِي قَلْبِهِ، فَعَادَ مَكَانَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ رِضًا عَنْهُ، وَمَكَانَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ رَحْمَةً بِهِ، وَأَبْدَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ عَفْوًا، وَبِالْمَنْعِ عَطَاءً، وَبِالْمُؤَاخَذَةِ حِلْمًا، فَاسْتَدْعَى بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ سَيِّدِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَرَحُ سَيِّدِهِ بِهِ؟ وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَرَاجَعَ مَا يُحِبُّهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ بِرِضَاهُ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْجُودِ، الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ وَالْعُقُوبَةِ؟. وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ شُرُودٌ وَإِبَاقٌ مِنْ سَيِّدِهِ، فَرَأَى فِي بَعْضِ السِّكَكِ بَابًا قَدْ فُتِحَ، وَخَرَجَ مِنْهُ صَبِيٌّ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، وَأُمُّهُ خَلْفَهُ تَطْرُدُهُ، حَتَّى خَرَجَ، فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ وَدَخَلَتْ، فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ وَقَفَ مُفَكِّرًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَأْوًى غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ، وَلَا مَنْ يُئْوِيهِ غَيْرَ وَالِدَتِهِ، فَرَجَعَ مَكْسُورَ الْقَلْبِ حَزِينًا، فَوَجَدَ الْبَابَ مُرَتَّجًا، فَتَوَسَّدَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ وَنَامَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ تَمْلِكْ أَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَالْتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُهُ وَتَبْكِي، وَتَقُولُ: يَا وَلَدِي، أَيْنَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمَنْ يُئْوِيكَ سِوَايَ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تُخَالِفْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِكَ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكَ، وَإِرَادَتِي الْخَيْرَ لَكَ؟ ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَدَخَلَتْ. فَتَأَمَّلْ قَوْلَ الْأُمِّ: لَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَأَيْنَ تَقَعُ رَحْمَةُ الْوَالِدَةِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ؟ فَإِذَا أَغْضَبَهُ الْعَبْدُ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ صَرْفَ تِلْكَ الرَّحْمَةِ عَنْهُ، فَإِذَا تَابَ إِلَيْهِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنْهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ. فَهَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ تُطْلِعُكَ عَلَى سِرِّ فَرَحِ اللَّهِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِ هَذَا الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ، بَعْدَ الْيَأْسِ مِنْهَا. وَوَرَاءَ هَذَا مَا تَجْفُو عَنْهُ الْعِبَارَةُ، وَتَدِقُّ عَنْ إِدْرَاكِهِ الْأَذْهَانُ. وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَةَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَنْزِلٌ ذَمِيمٌ، وَمَرْتَعٌ عَلَى عِلَّاتِهِ وَخِيمٌ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَجِدَ رَوَائِحَ هَذَا الْأَمْرِ وَنَفْسَهُ، لِأَنَّ زُكَامَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الشَّمِّ، كَمَا هُوَ مُفْسِدٌ لِحَاسَّةِ الذَّوْقِ، فَلَا يَذُوقُ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ، وَالْمَحْرُومُ كُلُّ الْمَحْرُومِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْغِنَى وَالْخَيْرُ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللَّهُ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
|